كمال بن حادين: “المحكمة الفدرالية العليا بين تكريس سمو الوثيقة الدستورية وحماية الحقوق والحريات”

المحكمة الفدرالية العليا
المحكمة الفدرالية العليا

المحكمة الفدرالية العليا بين  تكريس سمو الوثيقة الدستورية وحماية الحقوق والحريات


  بقلم: كمال بن حادين
طالب باحث بماستر القانون العام الداخلي وانتاج القواعد القانونية
  كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بوجدة
 
مقدمة:
      من البديهيات وسط المهتمين بالحقل القانوني، أن أي منظومة قانونية تؤطر وفق هرم قانوني معين، بحيث يخضع القانون الأدنى درجة في مقتضياته لأحكام القانون الأعلى درجة منه في الترتيب الهرمي المشار إليه آنفا.
     وحيث إن الغاية الأساسية من التشريع، تكمن في تنظيم العلاقات الاجتماعية وإقرار الحقوق والحريات الفردية والجماعية، فإن المشرع قد ينزاح عن هذه الغاية لسبب من الأسباب، الشيء الذي سيؤثر لامحالة سلبا على مكانة القانون في نفوس الأفراد، وبالتالي يفقده قيمته.
     وحيث إن الوثيقة الدستورية تأتي في قمة هذا الهرم في أغلب الأنظمة الدستورية، فإنه لا محيد للمشرع الدستوري من خلق جهاز قضائي دستوري، تناط به مهمة السهر على مراقبة دستورية القواعد القانونية قبل أو بعد إصدار الأمر بتنفيذها. 
     ومن هذا المنطلق، سنحاول بإيجاز التطرق للتجربة الأمريكية في هذا الصدد، بدءا من أول دستور عرفته الولايات المتحدة الأمريكية لسنة 1789، في محاولة لتسليط الضوء على مدى مساهمة المحكمة الأمريكية العليا في تكريس سمو الوثيقة الدستورية من جهة، وصون حقوق وحريات الأفراد والجماعات من جهة أخرى.
    وللإحاطة بهذا الموضوع، ارتأينا طرح التساؤلات الآتية: 
  – أي دور للمحكمة العليا الأمريكية في مراقبة دستورية القوانين؟

  • إلى أي حد يمكن القول انها ساهمت في حماية الحقوق والحريات؟
  • وهل استطاع القاضي الدستوري الأمريكي أن يوفق بين هاتين الوظيفيتين المحوريتين   بالنظر لاختلاف لتشريعات بين الولايات؟
    وعليه، تم تقسيم البحث إلى محورين أساسيين، نعالجهما على التوالي من خلال الاعتماد على منهجي التحليل والوصف، وفق ما يلي:

·-المحور الأول : تجربة المحكمة الفدرالية العليا في تكريس سمو الدستور
·-المحور الثاني : مدى توفيق المحكمة الفدرالية العليا بين سمو الدستور وصون الحقوق والحريات

-المحور الأول: تجربة المحكمة الفدرالية العليا في تكريس سمو الدستور


سنحاول من خلال هذا المحور التطرق لتنظيم المحكمة العليا من جهة (أولا)على أن نعرج على مقاربة اختصاص المحكمة الفدرالية العليا في مراقبة مطابقة التشريعات الأمريكية للدستور (ثانيا)
أولا: تنظيم المحكمة العليا
لقد شكل دستور الولايات المتحدة الأمريكية لسنة 1789 مرحلة انتقالية مهمة في تاريخ أمريكا، من خلال الانتقال من مرحلة طبعتها التشريعات والأحكام الملكية الاستعمارية البريطانية إلى عهد جديد تحكمه وتنظمه وثيقة قانونية موحدة.
   وفي الحقيقة، لقد تضمن هذا الدستور ترسانة مهمة من الحقوق والحريات الأساسية من خلال التعديل الأول منه، من قبيل:[1]
-حرية التجمع؛
-حرية التعبير؛
-الحرية الدينية؛
-حرية تقديم التماس.
   بالإضافة إلى الحق في امتلاك السلاح المرخص، حيث جاء في التعديل الثاني منه ما يلي: “حيث أن وجود قوات شعبية جيدة التنظيم ضروري لأمن أية ولاية حرة، لا يجوز انتهاك حق الناس في اقتناء الأسلحة وحملها”[2]
ولعل من أهم مقتضياته، تلك المتعلقة بإنشاء المحكمة العليا، حيث جاء في منطوق الفقرة الأولى من المادة الثالثة منه ما يلي” تناط السلطة القضائية في الولايات المتحدة بمحكمة عليا واحدة وبمحاكم أدنى درجة حسبما يرتئي الكونغرسويحدد من حين لآخر…”[3]
     نتيجة لذلك، تم تأسس أكبر جهاز قضائي في الولايات المتحدة الأمريكية خلال نفس السنة، هذا وقد اتُخذت واشنطن مقرا لها.
 تشكيلة المحكمة العليا ونصابها القانوني:
تشكيلة المحكمة العليا:
 تتألف المحكمة الفدرالية العليا من تسعة قضاة، رئيس قضاة الولايات المتحدة وثمانية قضاة مساعدين[4]، يتم انتخابهم وفق إجراءات وضوابط خاصة، نظرا للمكانة السامية التي تتمتع بها هذه المحكمة. 

حيث يتبين لنا من خلال الفقرة الثانية بالمادة الثانية من الوثيقة الدستورية أن المشرع الدستوري الأمريكي قد حصر الجهات التي لها الحق في تعيين قضاة المحكمة العليا بين الاقتراح المقدم من طرف رئيس الجمهورية، والمصادقة النهائية من قبل مجلس الشيوخ.
      وبناء على ما تقدم، فإنه في حالة شغور منصب في المحكمة لسبب من الأسباب، فإن الرئيس الأمريكي هو الذي يتولى مهمة اختيار واقتراح من يراه مناسبا، وبعد الانتهاء من عملية اختيار المرشح الأنسب، يودع القرار لدى لجنة الخدمات القضائية على مستوى مجلس الشيوخ وذلك بغرض القيام بالتحقيقات الضرورية حول مدى أهلية هذا المترشح لتقلد المنصب، ثم في الأخير يقوم أعضاء هذه اللجنة بالتصويت عليه، ففي حالة حصوله على الأغلبية المطلقة يمر إلى المرحلة الختامية، حيث يتم التصويت عليه من قبل مجلس الشيوخ كهيئة متكاملة، فإن حاز على الأغلبية المطلقة، عد قرار الرئيس مصادقا عليه.[5]
(لكل غاية مفيدة، أنظر الملحق الأول للتعرف على أعضاء المحكمة العليا الحاليين)
النصاب القانوني لعقد جلسات المحكمة العليا
      يفهم من مدلول القاعدة الرابعة من دليل المحكمة العليا والمعنونة ب”الدورات والنصاب القانوني” أن النصاب القانوني لاجتماع المحكمة يتحدد في تواجد ستة أعضاء على الأقل وأنه في حالة عدم اكتمال النصاب القانوني في أي يوم لعقد جلسة المحكمة، يجوز للقضاة الحاضرين – أو في حالة عدم وجود قاض، الكاتب أو نائب الكاتب – أن يعلنوا أن المحكمة لن تجتمع حتى تمام النصاب القانوني [6]..
ثانيا: اختصاص المحكمة العليا الأمريكية في مجال الرقابة الدستورية

·دور المحكمة العليا الأمريكية في مراقبة دستورية القوانين
باستقراء دستور الولايات المتحدة الأمريكية، نستشف أنه ليس هناك في الحقيقة تنصيص صريح على اختصاص المحكمة العليا فيما يخص مراقبة دستورية القوانين، إما إغفالا منه، أو لاعتباره الأمر بديهيا، ولا يدعو للتنصيص بشكل صريح، تاركا الفرصة للمحكمة العليا لتأويل الدستور وفق ما تراه مناسبا، ولهذا يقال إن القضاء هو الذي يمتلك الحقيقة القانونية. إن الدستور في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية المطاف هو ما تقول المحكمة العليا أنه كذلك [7].
(The Constitution Is What The Supreme Court Says It is)
  لقد أثبتت الممارسة العملية أن المحكمة العليا قد أولت النص الدستوري لصالحها، وذلك بمناسبة بتها فيما عرف بقضية Marbury V Madison، القضية التي شكلت الحجر
الأساس لإقرار أحقية المحكمة العليا في ممارسة الرقابة الدستورية، وتعود تفاصيل القضية الى سنة 1800حينما تم انتخاب Thomas Jefferson رئيسا للولايات المتحدة، حيث تم تعديل القانون القضائي لسنة 1789 في السنة الموالية لانتخاب الرئيس، وتم بمقتضى هذا التعديل إحداث ست عشرة محكمة دائرة وعددا غير محدد من القضاة، على إثر ذلك طلب الرئيس الأمريكي من وزير العدل  Madisonتسليم أوامر التعيين إلى خمسة وعشرين قاضيا فقط، الشيء الذي جعل Marbury  يطعن في شرعية قرار الرئيس الأمريكي أمام المحكمة العليا، مطالبا المحكمة بإصدار أمر قضائي إلى وزير العدل من أجل تسليمه هو وزملائه التعيينات مساواة مع زملائهم بالاستناد على المادة 13 من نفس القانون بعد تعديله.
        في منطوق القرار، كان يمكن للمحكمة العليا أن تستند على المادة 13 المشار إليها، والتي تسمح لها بتوجيه أمر قضائي إلى الوزير، إلا أنها مع ذلك قضت بأن هذه الأخيرة تتعارض مع المادة 3، الفقرة 2 من الدستور، التي تنص جزئياً على أن “للمحكمة العليا ولاية قضائية أصلية في “جميع القضايا التي تؤثر على السفراء وغيرهم من الوزراء والقناصل العامين، وذلك حيث تكون الدولة طرفاً “، وأنه” في جميع القضايا الأخرى المذكورة أعلاه، يكون للمحكمة العليا اختصاص الاستئناف. “
وفيما يخص أحقيةMarbury وزملائه في استلام تعييناتهم، اكتفت المحكمة بالإشارة في معرض قرارها إلى أن التعيين حق قانوني، وأن رفض التسليم هو انتهاك واضح لهذا الحق الذي تضمنه لهم قوانين البلاد.
     وبذلك تكون المحكمة العليا قد أسست لمبدأ دستوري جديد، يخول لها سلطة مراقبة التشريعات الاتحادية الولائية على حد سواء.[8]
·طرق تحريك العدالة الدستورية الامريكية
      إن وسائل إثارة الرقابة الدستورية أمام المحكمة الاتحادية العليا تتم من خلال ثلاث طرق أساسية راكمتها المحكمة من خلال تجاربها:
أسلوب الدفع الفرعي بعدم الدستورية:
     وهو الاسلوب الأكثر شيوعا امام القضاء الأمريكي لإثارة الرقابة الدستورية، ومن خلال هذا الأسلوب  يمكن لمن له مصلحة مباشرة  من بين أطراف الدعوى ، أن يدفع بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه عليه في نازلة معينة، فإذا تبين للمحكمة العليا أن الدفع المقدم جدي وأن القانون المراد تطبيقه مخالف للدستور، امتنعت عن تطبيقه في هذه النازلة فقط، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يطال هذا المنع قصايا أخرى، وبمعنى أكثر دقة لا يمكن من خلال هذا الأسلوب  الحكم بعدم دستورية هذا القانون أو ذاك بصفة نهائية، حيث يبقى النص قائما ونافذا .
أسلوب الأمر القضائي: 
     على عكس الأسلوب السابق الذي يتسم بكونه أسلوب دفاعي بدرجة أولى، فإن أسلوب الأمر القضائي في الحقيقة هو وسيلى دفاعية، تتيح لكل من له تخوف من قانون مشوب بعدم الدستورية من أن يطبق عليه مستقبلا، أن يدفع بعدم دستوريته أمام المحاكم الإتحادية حتى قبل نشوي نزاع، مع الاحتفاظ بحق الطعن في أحكام هذه الأخيرة أمام المحكمة الفيدرالية، وهذا لأهمية هذه الأوامر وخطورتها في تعطيل النصوص القانونية.
أسلوب الحكم التقريري: 
     تم تطبيق هذا النظام لأول مرة في سنة 1918، وبالمقارنة مع الأسلوبين السابقين فانه يعتبر حديث النشأة، وقد طبقته المحكمة العليا الاتحادية لأول مرة في سنة  1936 ، حيث يقصد به لجوء طرفين إلى المحكمة العليا بطلب إصدار حكم يقرر مدى دستورية قانون يراد تطبيقه عليهما، وفي هذه الحالة يتوقف الموظف المختص عن تنفيذ القانون موضوع البت من تلقاء نفسه  حتى تفصل المحكمة في مدى دستوريته، فاذا حكمت بدستورية القانون قام بتنفيذه، وفي حالة  العكس فانه يمتنع عن تطبيقه، مع التنويه أن حجية الحكم التقريري ليست مطلقة تسري على  الجميع بل لها أثر نسبي حيث لا يجوز الاحتجاج بها إلا على من صدر الحكم لصالحه وفي نفس الحالة دون سواها[9].  


المحور الثاني: مدى توفيق المحكمة الفدرالية العليا بين سمو الدستور وصون الحقوق والحريات


 
لقد ساهمت المحكمة العليا منذ إنشائها في إرساء دولة الحقوق والحريات التي أسس لها الدستور الأمريكي الأول لسنة 1789، بحيث تصدى القاضي الدستوري في العديد من قراراته للتشريعات المشوبة بعدم الدستورية، إلا أن ما كان يصعب من مهمة القاضي خاصة في العقود الأولي التي تلت إنشاء الدستور، هو تضمن الدستور نفسه لمقتضيات تعسفية أو تمييزية، إذا التساؤل الذي يطرح نفسه هو: كيف تعامل القاضي مع هاته المقتضيات؟ وإلى أي حد استطاع أن يوفق بين تكريس سمو الوثيقة الدستورية من جهة، وحماية وصون الحقوق والحريات من جهة أخرى؟
     إن الإجابة عن هذه التساؤلات، تقتضي منا تحليل أهم القرارات التي اتخذتها المحكمة على مر التاريخ.
أولا: حماية الحقوق والحريات الدستورية
دستور الولايات المتحدة وثيقة متوازنة بعناية، وهي مصممة لتوفير حكومة وطنية قوية ومرنة بما يكفي لتلبية احتياجات الجمهورية، لكنها محدودة بما فيه الكفاية وعادلة لحماية الحقوق المضمونة للمواطنين؛ تسمح بالتوازن بين حاجة المجتمع للنظام وحق الفرد في الحرية. ولضمان هذه الغايات، أنشأ واضعو الدستور المحكمة العليا..
ينشأ الدور المعقد للمحكمة العليا في هذا النظام من سلطتها لإبطال التشريعات أو الإجراءات التنفيذية التي تتعارض مع الدستور، وقد أعطت سلطة “المراقبة الدستورية” هذه للمحكمة مسؤولية حاسمة في ضمان الحقوق الفردية، وكذلك في الحفاظ على “الدستور الحي” الذي تُطبَّق أحكامه الواسعة باستمرار على حالات جديدة معقدة.
     وفيما يلي أهم القرارات التي تكرس حماية الحقوق والحريات من قبل المحكمة العليا:
 

  • القضية الأولى: في عام 1828، أصدرت جورجيا قوانين تحظر على أي شخص باستثناء الأمريكيين الأصليين العيش في أراضي الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر)، وقد كان Samuel Worcester يعيش على أرض أمريكي أصلي، ورفض تقديم طلب   للحصول على ترخيص، على إثر ذلك تم اعتقاله.
         القرار: رأت المحكمة العليا، 5-1، أن أمة شيروكي “مجتمع متميز” ذو سيادة. وألغت قانون جورجيا الذي يحظر على البيض العيش على أرض الأمريكيين الأصليين، كانت القضية مهمة لأنها حفظت للمدعي حقه في التنقل داخل الولايات من جهة، وأكثر أهمية كونها قد ألغت قانونا لا يتطابق مع الدستور.
     
    -القضية الثانية: نشأت القضية بعد سفر (ريتشارد لوفين)، وهو رجل أبيض، و(ميلدريد جيتر)، وهي امرأة من أصول مختلطة إفريقية وأمريكية أصلية، من مسكنهم في فيرجينيا، إلى واشنطن العاصمة، ليتزوجا في 2 يونيو 1958. بعد أن عادا إلى فيرجينيا. في يوليو 1958، اعتقلتهم الشرطة لانتهاكهما حظر الولاية على الزواج بين عرقين مختلفين، في جلسة الاستماع في محكمة ولاية فرجينيا في يناير 1959، اعترف الزوج بأنه مذنب بانتهاك القسم 20-58 من قانون ولاية فرجينيا، الذي منع الشخص “الأبيض” والشخص “غير الأبيض” من مغادرة الولاية للزواج والعودة للعيش كزوج وزوجة. 
          نتيجة لذلك، حكم القاضي على الزوج بالسجن لمدة عام واحد، لكنه علق العقوبة بشرط أن يغادر الزوجان الولاية على الفور وعدم العودة كزوج وزوجة لمدة 25 سنة، استأنف الزوجان الحكم أمام محكمة الاستئناف العليا في فرجينيا بدون جدوى، ثم استأنفا القرار مرة أخرى أمام المحكمة العليا الأمريكية، التي استمعت إلى مرافعات شفوية في 10 أبريل 1967، وقضت على إثر ذلك بالإجماع في قرارها (9-0) بتاريخ 12 يونيو 1967 بإلغاء قوانين ولاية فرجينيا باعتبارها لا تتطابق مع مقتضيات التعديل الرابع عشر من دستور الولايات المتحدة الأمريكية[10].
     
    -القضية الثالثة: Obergefell v. Hodge، فيما عرف بقضية زوجين من نفس الجنس تزوجا 
     خارج ولايتهما (أوهايو) بشكل قانوني، إلا أنه لدى عودتهما إلى ولايتهما الأصلية ، امتنعت الولاية عن الاعتراف بهذا الزواج بذريعة أنه يخالف القوانين المحلية للولاية، لكن باستقراء قرارا المحكمة العليا في هذا الصدد، يتبين لنا أن هذه الأخيرة كان لها رأي مخالف، حيث اعتبرت أن الزواج من نفس الجنس هو في الأصل حق دستوري بموجب التعديل الرابع عشر لدستور الولايات المتحدة المتحدة، إن التأثير الرئيسي لهذا القرار هو جعل الزواج من نفس الجنس قانونيًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة، خاصة في الولايات الفيدرالية الأربع عشرة والأقاليم الأمريكية التي لم تأذن به بعد.[11]
        وبالعودة الى التعديل الرابع عشر الذي استندت اليه المحكمة في قرارها هذا في الفقرة الأولى منه، نجده ينص على ما يلي:”يعتبر جميع الأشخاص المولودين في الولايات المتحدة أو الحاملين لجنسيتها والخاضعين لسلطانها من مواطني الولايات المتحدة ومواطني الولاية التي يقيمون فيها. ولا يجوز لأية ولاية أن تضع أو تطبق أي قانون ينتقص من امتيازات أو حصانات مواطني الولايات المتحدة. كما لا يجوز لأية ولاية أن تحرم أي شخص من الحياة أو الحرية أو الممتلكات دون مراعاة الإجراءات القانونية الأصولية؛ ولا أن تحرم أي شخص خاضع لسلطانها من المساواة في حماية القوانين”

في الحقيقة، هذا التعديل لا يبيح (زواج المثليين)، بقدر ما ينص على المساواة وحماية الحريات، ولكن يمكن القول إن المحكمة قد فسرت النص الدستوري تفسيرا واسعا وتقدميا يتماشى مع الاتفاقيات الدولية.

ثانيا: انتصار للدستور أم للحق؟
 قد يحدث أن يجد القاضي الدستوري نفسه أمام مقتضيات دستورية تمييزية، فما هو المعيار الذي يعتمده في هذه الحالة للبت في نازلة معينة؟ بطبيعة الحال هناك إمكانية لحل هذا التناقض وهو وجود قضاء دستوري مستقل وتقدمي، ليس تقدميا أنه ينتمي لحزب تقدمي، ولكن تقدمي بالمعنى الذي يقول به الفقهاء الامريكيون، أي يقوم بالتأويل القضائي للدستور في اتجاه التناغم مع حاجات المجتمع المعاصر بخلاف تأويل القضاة المحافظين الذين يِؤولون الدستور كما لو كان جسما ميتا، تأويلا يهدف حماية مصالح صارت تقف عقبة أمام الحقوق[12].
       إذا على هذا الأساس، سنحاول جرد أهم القرارات التاريخية للمحكمة العليا والتي أثارت جدلا واسعا في أوساط المجتمع والمهتمين، بل إن بعضها قد أدى أحيانا إلى نشوب حروب أهلية، ولعل من أشهر هذه القرارات: 
 

  • القضية الأولى:Dred Scott v. Sandford.اعتبر قرار المحكمة العليا لسنة 1857 حول هذه القضية نقطة سوداء في تاريخ أعلى هيئة قضائية[13]، وفيما يلي حيثيات القضية:
    كان Dred Scott(عبدا) في ولاية Missouriمن 1833 إلى غاية 1843، ثم أقام في illinois إيلينوي(ولاية حرة) حيث تم حظر العبودية من خلال ما عرف بقانون التسوية لسنة 1820، بعد عودته إلى Missouriرفع دعوة أمام المحكمة الولائية يطالب فيها، بحريته هو وأسرته، مدعيا أن إقامته في ولاية حرة جعلت منه رجلا حرا، فرفضت المحكمة تمتيعه بحريته على هذا الأساس، مما اضطره إلى اللجوء للمحكمة العليا الاتحادية.
    إذا، القاضي الدستوري الآن أمام خيارين، إما الانتصار للدستور الذي يعتبر في التعديل الخامس منه أن الزنوج ممتلكات ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصبحوا مواطنين، كما ولا يجب أن يحرم أي شخص من البيض من (عبيده)، وإما الانتصار للحق في الحرية والمساواة.
           في الحقيقة، صدر أسوأ قرار للمحكمة العليا على الإطلاق، حيث اعتبرت أن الأمريكيين الأفارقة، سواء كانوا أحرارًا أو عبيدًا، لا يمكن اعتبارهم مواطنين أمريكيين، إذ لم تكتف برفض طلب المدعي دريد سكوت، وإنما تجاوزت ذلك حينما ألغت قانون التسوية لسنة 1820 باعتباره مخالفا للتعديل الخامس من الدستور المشار إليه آنفا، مما سيؤدي لاحقا إلى نشوب حرب أهلية في مجموعة من الولايات.
          ان القراءة الموضوعية القانونية المحضة والمتجردة من الابعاد الإنسانية لمنطوق القرار، تقتضي منا الإقرار بأن المحكمة قد انتصرت للدستور، ولكن هل يعقل ان القانون أحدث لغير غاية تكريس الإنسانية وحماية الحقوق والحريات؟ هل يمكننا القول إن المحكمة أصابت في قرارها ما دامت بقرارها هذا تكرس لسمو الوثيقة الدستورية؟ 
     
    -القضية الثانية: York Joseph Lochner V. New
    في عام 1897، أقرت نيويورك قانون العمل الذي يقصر أسبوع العمل على الخبازين لمدة 60 ساعة. تم تغريم Joseph Lochner  مرتين، لأن موظفيه عملوا أكثر من 60 ساعة. استأنف  Lochnerبحجة أن القانون غير دستوري.
    القرار: قررت المحكمة العليا أن قانون نيويورك غير دستوري. وقالت إن القانون تدخل في العقد بين صاحب العمل وموظفيه، تم إدانة هذا القرار على نطاق واسع.
     
    -القضية الثالثة:Korematsu v. United States
         ردا على الهجوم الياباني Harbo Pearlخلال الحرب العالمية الثانية، قررت الحكومة الأمريكية مطالبة الأمريكيين اليابانيين بالانتقال إلى معسكرات إعادة التوطين كمسألة تتعلق بالأمن القومي، على إثر ذلك وقع الرئيس فرانكلين روزفلت الأمر التنفيذي 9066 في فبراير 1942، بعد شهرين من الهجوم الياباني، قرر Fred وهو مواطن ياباني أمريكي عدم الامتثال لأمر الانتقال، فتم القبض عليه، Korematsuوأدين بتهمة انتهاك الأمر.
          دفع المدعي أمام الهيئة القضائية بالقول إن الأمر التنفيذي 9066 انتهك التعديل الخامس من الدستور، لكن المحكمة كان لها رأي آخر، حيث إنها فسرت الوثيقة الدستورية تفسيرا واسعا إلى حد القول إن هذا الأمر يعد استجابة للحاجة الإستراتيجية للحفاظ على الولايات المتحدة وخاصة الساحل الغربي (المنطقة الأقرب إلى اليابان) آمنة من الغزو، وهكذا وجدت الأمر التنفيذي دستوريا بالرغم من أنه يقيد حرية فئة عريضة من المواطنين[14]، لتكون بذلك مرة أخرى انتصرت للسمو الدستوري على حساب ضمان وصون الحقوق والحريات.
     

خاتمــــــة:
  في ختام هذا المقال الذي سلطنا فيه الضوء على تجربة المحكمة الفدرالية العليا في مجال الرقابة على دستورية القوانين بين تكريس السمو الدستوري وحماية الحقوق والحريات، خلصنا إلى ما يلي:
أولا: إنه وبالنظر للتاريخ الحافل للمحكمة العليا في هذا الصدد، فقد أثبتت الممارسة العملية أنها راقبت ما من مرة كلا من التشريعات الولائية والاتحادية على حد سواء من جهة، بالإضافة الى القرارات الرئاسية من جهة أخرى.
ثانيا: إن هذا التاريخ الحافل للمحكمة، ليس كله ورد في الحقيقة، كون المحكمة أصدرت العديد من القرارات كما تطرقنا لذلك في هذا المقال، حيث كرست من خلالها مزيدا من التمييز، وخلقت المزيد من الحروب الأهلية، مما يعني أنه كان ولا زال لها تأثير كبير على السياسة الأمريكية.
ثالثا: في كل الحالات التي كانت الهيئة القضائية تجد نفسها أمام الاختيار بين حماية تطبيق مقتضى دستوري أو حماية حق من الحقوق، كانت تحمي هذا المقتضى الدستوري، بغض النظر عن كونه تمييزي من عدم ذلك.
ملحق
أعضاء المحكمة الفدرالية الحاليين:
[15]
 

Front row, left to right: Associate Justice Stephen G. Breyer, Associate Justice Clarence Thomas, Chief Justice John G. Roberts, Jr., Associate Justice Ruth Bader Ginsburg, Associate Justice Samuel A. Alito. Back row: Associate Justice Neil M. Gorsuch, Associate Justice Sonia Sotomayor, Associate Justice Elena Kagan, Associate Justice Brett M. Kavanaugh.Nine Justices make up the current Supreme Court: one Chief Justice and eight Associate Justices. The Honorable John G. Roberts, Jr., is the 17th Chief Justice of the United States, and there have been 102 Associate Justices in the Court’s history

الترجمة:

 الصف الأمامي، من اليسار إلى اليمين: القاضي المساعد ستيفن ج.برير ، القاضي المساعد كلارنس توماس ، رئيس القضاة جون ج.روبرتس ، القاضي المساعد روث بدر جينسبيرغ ، القاضي المساعد صمويل أ. الصف الخلفي: القاضي المشارك نيل م. غورسوش ، القاضي المساعد سونيا سوتومايور، القاضي المشارك إيلينا كاجان، القاضي المشارك بريت م. كافانو..
يشكل تسعة قضاة المحكمة العليا الحالية: رئيس قضاة، وثمانية قضاة مساعدين. جون ج. روبرتس، هو رئيس القضاة السابع عشر للولايات المتحدة، وقد كان هناك 102 من القضاة المساعدين في تاريخ المحكمة.

[1] The Constitution of the United States, Amendment 1 :’’ Congress shall make no law respecting an establishment of religion, or prohibiting the free exercise thereof; or abridging the freedom of speech, or of the press, or the right of the people peaceably to assemble, and to petition the Government for a redress of grievances.’’
 
[2] The second amendement’’well regulated Militia, being necessary to the security of a free State, the right of the people to keep and bear Arms, shall not be infringed.’’
[3] ArticleIII.Section 1: ‘’The judicial Power of the United States, shall be vestedin one supreme Court, and in such inferior Courts as theCongress may from time to time ordain and establish….’’
[4] U.S.C.§ 1. Number of justices; quorum.
The Supreme Court of the United States shall consistof a Chief Justice of the United States and eightassociate justices,

any six of whom shall constitute aquorum. (June 25, 1948, ch. 646, § 1, 62 Stat. 869,eff. Sept. 1, 1948.)
[5]سعودي نعيم، دور المحكمة العليا الأمريكية في مجال الرقابة الدستورية، محلة القانون الدستوري والعلوم الاداريةن العدد الخامس.كانون الثاني-يناير-2020.ص.16.
[6]RULES OF THE Supreme Court of the United States.Rule 4 : »… Six Members of the Court constitute a quorum. See 28 U. S. C. § 1. In the absence of a quorum on any day ap­pointed for holding a session of the Court, the Justices at­tending—or if no Justice is present, the Clerk or a Deputy Clerk—may announce… »
[7]عمر بندورو، العلاقات بين السلط: فصل أم خلط في السلط؟ دفاتر وجهة نطر24،رالدستور ووهم التغيير،ص،94.
[8] https://www.britannica.com/event/Marbury-v-Madison
[9] سعودي نعيم، دور المحكمة العليا الأمريكية في مجال الرقابة الدستورية، مرجع سابق.ص.23.
[10]https://www.britannica.com/event/Loving-v-Virginia.
[11] SUPREME COURT OF THE UNITED STATES,Decision of Obergefell v. Hodges, 576 U.S, June 26, 2015.
[12] عبد العزيز النويضي، دسترة توصيات هيئات الانصاف والمصالحة: الضمانات المعيارية والمؤسساتية للحقوق في مشروع الدستور الجديد دفاتر وجهة نطر24، الدستور ووهم التغيير، ص،141
[13] https://blogs.findlaw.com/supreme_court/2015/10/13-worst-supreme-court-decisions-of-all-time.html
[14] https://www.law.cornell.edu/supremecourt/text/323/214
[15] https://www.supremecourt.gov/about/justices.aspx

ضع تقييمك لهذه المقالة
شارك مع أصدقائك