الوساطة المدرسية:
مقدمة:
تتعدد الخلافات وتتباين أشكالها، بوصفها من صميم الحياة، و معطى حيوي للتطور البشري في بعده الفردي و الاجتماعي، و بالمقابل فمن هذه الخلافات ما قد تنحل من تلقاء ذاتها و منها من تحتاج التدخل و التدبر، هذا التدخل الذي يمكن أن يتم بأشكال مختلفة و متعددة من بينها اعتماد الوساطة كأسلوب و كمنهجية تسمح بتبني أساليب الحوار و التواصل و الانخراط و التعاون، كميكانزمات أساسية للبحث عن الحلول ضمن وضعية خلافية معينة.
و إن الحديث عن الوساطة كمفهوم في مجال العمل الاجتماعي مسألة حديثة ترتبط بدولة الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت أول من بادر إلى إشراك المجتمع المدني في حل الخلافات بدل اللجوء إلى القضاء، هذا القطاع الذي وجهت له العديد من الانتقادات مفادها سعيه إلى حل المشاكل و الخلافات استنادا إلى نظرة قانونية صرفة تطغى عليها نوع من الصرامة المنطقية التي تجعلها غير مراعية للجوانب الإنسانية و الأبعاد العاطفية للخلافات في القضايا المطروحة عليها، فضلا عما تقتضيه المقاربة القانونية من إجراءات إدارية تتطلب وقتا أطول لحل الخلاف، الذي غالبا ما ينتهي وفقا لمعادلة رابح خاسر.
و هو الأمر الذي عجل بظهور الوساطة كتقنية لحل الخلافات ذات البعد الاقتصادي و المالي أولا، ثم انتقلت لكي تشمل الخلافات ضمن مختلف العلاقات الإنسانية و في مقدمتها الخلاقات الأسرية، فأصبحنا أمام ما يسمى بالوساطة الأسرية، ثم برزت بعد ذلك الوساطة المدرسية ثم المؤسساتية و المهنية في أشكالها الأكثر اتساعا.
فالوساطة المدرسية كإحدى الآليات التي يتم اللجوء إليها من طرف مختلف الفاعلين و المهتمين بقضايا التربية و التعليم ظهرت نتيجة لما تعرفه المدرسة من مشاكل و صعوبات متشابكة في مقدمتها المشاكل السيكوتربوية المرتبطة بالمقررات و الطرق البيداغوجية المعتمدة من جهة، و بالعلاقات الاجتماعية السائدة ضمن المناخ المدرسي من جهة ثانية.
و قد توصل مجموعة من علماء النفس و التربية إلى أهمية الوساطة التربوية سواء تلك التي يقوم بها المدرس أو أي شخص آخر له معارف يمكن أن تفيد التلميذ أو المتعلم في مجال بناء التعلمات و تحقيق التفاعل الاجتماعي و المعرفي بين التلاميذ، و من جانب آخر رصد حاجياته و مساعدته على معالجة مشاكله داخل الأسرة و المؤسسة التعليمية و المحيط المدرسي.
و لما كان موضوع البحث يتمحور حول معالجة الوساطة المدرسية كصورة من صور الوساطة، فالأمر يقتضي منا التساؤل عن مفهوم و نشأة هذا النوع من الوساطة و إجراءات عملها، ثم إلى مفهوم و دور الوسيط المدرسي في عملية الوساطة. و بالتالي طرح الإشكالية التالية :
أي دور للوساطة المدرسية في تماسك و استقرار البنية التعليمية و مكافحة مشاكل التعليم و خلافات الوسط المدرسي ؟
و للإجابة عن هذه الإشكالية سنقسم الموضوع لمبحثين، نعالج في الأول أهمية و نشأة الوساطة المدرسية و مبررات اللجوء إليها، كذلك مفهوم الوسيط المدرسي و أدواره. و سنتطرق في الثاني إلى أشكال الوساطة المدرسية و إجراءات عملها.
المبحث الأول: مفهوم و أهمية الوساطة المدرسية و دور الوسيط التربوي في عملية الوساطة
المبحث الثاني: أشكال الوساطة المدرسية و كيفية عملها و شروط تطبيقها
المبحث الأول: مفهوم و أهمية الوساطة المدرسية و دور الوسيط التربوي في عملية الوساطة
المطلب الأول: مفهوم الوساطة المدرسية و مبررات اللجوء إليها
الفقرة الأولى: مفهوم الوساطة المدرسية و نشأتها
إن مفهوم الوساطة المدرسية لا يختلف عن مفهوم و فلسفة الوساطة بوجه عام، و هكذا فيمكننا القول بأنها أسلوب بيداغوجي يسمح بتبني أساليب الحوار و التواصل و التعاون، كميكانزمات أساسية للبحث عن الحلول ضمن وضعية خلافية معينة، مع مراعاة خصوصية المدرسة كمؤسسة اجتماعية تربوية، بما تتضمنه من برامج و مناهج بيداغوجية. و يعرفها البعض الآخر بأنها:” مجموع المساعدات والدعامات التي يمكن لشخص تقديمها لشخص آخر بهدف جعله قادرا على ولوج معرفة ما (معارف ، مهارات ، إجراءات العمل ، حلول….).[1]
و في الأنظمة المدرسية القديمة مثلت السلطة وسيلة أساسية من أجل تدبير الصراعات و القضاء عليها، و ذلك في ظل نموذج اجتماعي يقوم بدوره على منظومة ربط التربية بالعقاب، هذا النظام الذي لم يعد مقبولا اليوم، لتعارضه مع المنظومة القيمية لحقوق الإنسان، و كذا لتعارضه و فحوى العلاقات المدرسية التي من المفترض أن تقوم على بيداغوجيا التربية و ليس على أساس الأنساق العقابية، مما يؤكد مدى حاجة المؤسسات التعليمية المعاصرة إلى تقنيات و آليات جديدة لتدبير الخلافات تجسدت في الوساطة المدرسية.[2]
و يعود اعتماد الوساطة المدرسية أو التربوية إلى الو.م.أ بسبب ما تعانيه مؤسساتها التعليمية من أوضاع صعبة بينت الحاجة إلى المستمرة إلى وجود جهاز خاص يتولى تدبير الخلافات داخل المؤسسات التعليمية قبل استفحالها، و ذلك نظرا لما قد يسببه تراكم الخلافات من كراهية و حقد كثيرا ما تدفع إلى الرغبة في الانتقام و تبني السلوكات العنيفة التي وصلت في بعض الحالات إلى حدود القتل، و هو ما أدى إلى ظهور ما أسماه الباحثون بأزمة المدرسة و العنف المدرسي.[3]
إذن فالوساطة المدرسية ليست مجرد وسيلة لحل الخلافات المدرسية، و إنما هي و قبل كل شيء وسيلة تعليمية و تربوية، تدرس و تدرّس كطريقة حضارية في التواصل و التعايش داخل البيئة المدرسية بعيدا عن السلطة و استعمال العنف.
الفقرة الثانية: مبررات اللجوء إلى الوساطة المدرسية
لقد شكلت التحولات التي عرفتها المجتمعات المعاصرة بما فيها المجتمع المغربي، معطيات فتحت المجال أمام طرق جديدة في العمل غيرت من أهذاف العملية التعليمية التعلمية، حيث أصبحت المؤسسات التعليمية إحدى المجالات الأكثر تضمنا للمساواة و الأكثر تجسيدا لغياب و جود عدالة اجتماعية، و في ظل تنامي ظاهرة العنف بكل أنواعه و الهدر المدرسي و الغش في الامتحانات، برزت الحاجة إلى أنماط جديدة من التعامل سواء على المستوى الإنساني أو البيداغوجي، تجسدت في الوساطة المدرسية.
كذلك نجد بأن مجوعة من علماء النفس و التربية قد توصلوا إلى أهمية الوساطة المدرسية سواء تلك التي يقوم بها المدرس أو أي شخص آخر له تجارب ومعارف يمكن أن تفيد المتعلم، في مجال بناء التعلمات وتحقيق التفاعل الاجتماعي والمعرفي بين التلاميذ .
فقد كشفت أعمال فيكوتسكي ( محمد طه ، الذكاء الإنساني 2006) عن الدور الذي يلعبه الراشد بالنسبة للتلميذ في عملية التعلم من خلال مقارنته بين ما يتعلمه لوحده ، ومقدار ما يتعلم هذا الأخير أثناء مرافقة شخص راشد له أثناء اكتساب المعارف والكفايات فالتعلمات التي يكونها الطفل في حالة وجود شخص راشد تفوق تلك التي يقوم ببنائها واكتسابها لوحده . إن هذه الفرضيات التي اتضح صدقها تجريبيا ، تجعل من عملية حضور “وسيط” بين المتعلم والمعرفة مسألة ضرورية، لأن جانبا كبيرا من المعارف والمهارات يتم بناؤها عن طريق الاحتكاك بعالم الأشخاص الذين يمتلكون تلك المعارف. ونعتقد أن أبحاث فيكو تسكي في هذا الجانب ، تعتبر من بين الأسس النظرية لنظام الوساطة التربوية.
وقد سار جيروم برونير(Jérome Bruner) في نفس المنحى؛ ذلك أنه اعتبر وصي التلميذ le tuteur (مدرس ، أو شخص أخر يقوم بعملية التعليم) يلعب دورا مهما في عملية اكتساب الأطفال ( les tutorés) لمختلف التعلمات والمهارات والقدرات من خلال التحفيز والمساعدة والتوجيه الذي يقدمه هذا الوسيط في هذا الجانب ، وركز بالخصوص على التفاعلات السسيوثقافية التي تنشأ عن هذه العملية وأهميتها في تكوين المفاهيم لدى المتعلمين .
وفي نفس الاتجاه دائما ، المدعم لأهمية وضرورة الوساطة التربوية ، اعتبر Reven Freuerstein ، أحد تلاميذ بياجيه ، أن الطفل يتعلم أكثر أثناء مساعدة شخص راشد له . وقد لا يكون بالضرورة هذا الشخص أستاذه (ته) في المدرسة . وإنما يمكن للأب المتعلم ، أو الأخ الأكبر أو أحد أفراد العائلة المتوفر على مستوى تعليمي يفوق مستوى التلميذ أن يقوم بمثل هذا الدور [4].
فمن خلال قراءة جوانب من أعمال هؤلاء الباحثين يمكن التأكيد على أن الوساطة المدرسية لما لها من أدوار إيجابية، فالهدف منها هو النهوض بالمنظومة التعليمية في ظل ما تعانيه من صعوبات على المستويين الوطني و الدولي و على الصعيدين الشخصي الفردي و المؤسساتي.
المطلب الثاني: دور الوسيط التربوي في إنجاح عملية الوساطة
الفقرة الأولى: التعريف بالوسيط التربوي و الصفات الواجب توافرها فيه
بالنظر إلى حداثة دور الوسيط نجد أن الباحثين وجدوا نوعا من الصعوبة في تعيين خاصياته و تحديد مهامه مقارنة بسائر الأدوار المندرجة تحت ما يسمى بالعمل الاجتماعي، غير أنه يمكننا القول بأن الوسيط التربوي أو المدرسي هو “ذلك الشخص الذي يتولى تحقيق التفاعل السوسيومعرفي بين المتعلم و المعرفة للتلميذ، بفهم حاجاته و مشاكله و إيجاد حلول لها، و ذلك عن طريق الإصغاء و رصد حاجيات المتعلم في مجال التعلم، و على المستوى الاجتماعي مساعدته على معالجة مشاكله داخل الأسرة و المؤسسة و المحيط الدراسي”.
هذا و يجب أن يتحلى الوسيط المدرسي بمجموعة من المبادئ و الصفات ذات الصلة بخصوصية المؤسسة التعليمية، يمكن إيجازها فيما يلي:
- أن يكون صبورا، صادقا، أمينا ومسئولا؛ وذلك نظرا لحساسية مهمته في التعامل مع حالات المتعلمين وخصوصياتهم.
- أن يتحلى بالمرونة في التعامل مع المتعلمين، وأن لا يتقيد بأساليب محددة في فهم واقعهم واستيعاب مطالبهم؛ وذلك بتفهمه لمعاناتهم والاستماع لهمومهم واحتياجاتهم.
- أن يتميز بالإخلاص و يقبل بالعمل في مجال الوساطة المدرسية كرسالة إنسانية وتربوية، وليست كوظيفة مهنية، بعيدا عن الرغبات والطموحات الشخصية.
- يتجنب إقامة علاقات شخصية مع المستمع إليهم خارج الوساطة المدرسية.
- أن يبتعد عن التعصب، ويلتزم بالحياد والموضوعية و يتشبث بأخلاقيات المهمة المنوطة به.
- أن يكون مقتنعا بضرورة تقريب المستمع إليهم، و أن يشعر وأولي أمرهم، ينسق معهم لفهم الحالات المطروحة وإيجاد الحلول المناسبة والمتوافق عليها من كافة الأطراف المعنية.
- أن يلتزم بالسرية كشرط أساسي لإنجاح عملية الاستماع والوساطة.
- أن يتعامل مع المتعلمين المعنيين كمتعلمين أسوياء يعانون من بعض المشاكل المعيقة لمسيرتهم التعليمية؛ وعند شعوره بتطور سلبي للحالة المعروضة وتجاوزها لحدود عمله كوسيط؛ عليه أن يحيلها على الجهات المختصة[5] (حقوقيون، فاعلون جمعويون، مؤسسات عمومية، أطباء نفسانيون…).
الفقرة الثانية: دور الوسيط التربوي في عملية الوساطة
تتحدد أدوار الوسيط المدرسي في مكافحة ظواهر العنف المدرسي، التعثر، الانقطاع، التسرب والهدر المدرسي، و ذلك عن طريق:
- دعم المتعلمين للتغلب على العوائق التي تعترض مراحل تعليمهم، ويواجهونها في حياتهم الخاصة أو الأسرية أو المدرسية أو الاجتماعية.
- مساعدتهم على اكتساب الثقة بأنفسهم وأسرهم ومدرستهم ومجتمعهم.
- – الحرص على تقديم أفضل الخدمات للمتعلمين، وذلك بتفهم طبيعة مشاكلهم في محيطها السوسيو ثقافي رغبة في تذليل كافة الصعوبات التي يلاقونها.
- إقناع المتعلمين بقيم التسامح والمواطنة ونبد قيم التطرف كوقاية من كل أشكال العنف والكراهية والاستيلاب والانحراف.
- – مساعدة المتعلمين على فهم ذواتهم، والوعي بها في إطار علاقتهم بالآخرين بغية تحسين أدائهم واكتساب مهارات وقدرات تؤهلهم للقيام بوظائفهم كاملة تجاه ذاتهم وأسرتهم ومدرستهم ومجتمعهم.
- – توعيتهم بحقوقهم وواجباتهم في علاقتهم بمختلف المتدخلين في الحياة المدرسية.
- مساعدتهم على تحقيق اندماج ايجابي في محيطهم المدرسي، وتشجيعهم على الانخراط في الأنشطة الاجتماعية التربوية التي ستساعدهم على إثبات ذواتهم و تفتح طاقاتهم الإبداعية وصقل مواهبهم.
- – دعمهم في فترات الامتحانات بتبديد مشاعر القلق والتوتر بمنحهم الثقة في أنفسهم.
المبحث الثاني: أشكال الوساطة المدرسية و كيفية عملها و شروط تطبيقها
المطلب الأول: أشكال الوساطة المدرسية
لقد اتسع مجال الوساطة المدرسية باختلاف التجارب و تنوعها، مما يجعلنا أمام أشكال عديدة من الوساطة المدرسية، و ذلك على المستويين النظري و التطبيقي.
الفقرة الأولى : على المستوى النظري
النموذج المدرسي : حيث يتم إدراج الوساطة ضمن البرامج و المناهج التعليمية، و أيضا من خلال مجموعة من الأنشطة الموازية كتنظيم ورشات للحوارات الجماعية و التعبيرات الكتابية، كذلك الأنشطة التدريبية من قبيل لعب الأدوار…إلى غير ذلك من الأنشطة التي تهدف إلى تلقين التلاميذ :
- تقنيات الإنصات الفاعل
- تمييز المشكلة عن الشخص
- حل الخلاف وفق مقاربة تشاركية و تعاونية
النموذج القانوني أو النظامي : يتم من خلاله تعليم الوساطة في بعدها القانوني، و ذلك بإدراجها ضمن المقررات و البرامج الدراسية، تحت إشراف الوزارة أو القطاع المعني.
الفقرة الثانية : على المستوى العملي الإجرائي
النموذج الشمولي : و هو الذي يهدف إلى تكوين مختلف الفاعلين ضمن المؤسسة التعليمية، من تلاميذ و مدرسين و إداريين و مسؤولين، لكي يقوموا بدور الوسيط بالمؤسسة التي ينتمون إليها.
نموذج الوساطة بالقرين : و هو من بين النماذج الأكثر شيوعا في المؤسسات التعليمية بالو.م.أ، و يهدف هذا النموذج إلى تكوين بعض التلاميذ المتطوعين، لكي يعملوا كوسطاء مع أقرانهم داخل المؤسسة.
الفقرة الثالثة : معايير اختيار نوع الوساطة المدرسية
يتعين أمام كل اختيار لنوع الوساطة المدرسية، أن يكون متطابقا مع سن المتعلمين و مستوياتهم العقلية و الإدراكية في بعدها القيمي الاجتماعي وفقا لنظريات كل من بياجيه و كوهلبرج، اللذين يؤكدان على أن تطور سيرورة التفاوض لدى الأطفال بتطور قدراتهم العقلية و التي تتضمن بعدين أساسين :
- التوجه الزمني الذي ينطلق من الحاضر نحو المستقبل
- البعد الخلافي و الذي يتوقف على مدى تمكن المتعلم من إدراكه لمفهوم العلاقة، أي الانتقال من الفهم الأحادي إلى فهم العلاقة الثنائية.
المستوى الصفر : من الولادة إلى ثلاث سنوات، و يتصرف الأطفال خلال هذه المرحلة أمام الخلاف بكيفية مؤقتة و بردود فعل فزيولوجية، يتم فيها حل الخلاف بناء على استراتيجيتين، إما اعتماد القوة البدنية أو السعي إلى إنهاء العلاقة، فيميل الطفل في هذه المرحلة إلى ردود فعل بدائية تتم وفقا لثنائية تتراوح ما بين الصراع و الاختفاء.
المستوى الأول : من ثلاث إلى ست سنوات، و تتميز هذه المرحلة ببداية انتباه الطفل و أخذه بعين الاعتبار للأبعاد العاطفية و السيكولوجية في الخلاف، إلا أن ذلك لا يلغي استمرارية سعيه لربط الخلاف بالذات و عجزه عن إدراكه كمظهر من مظاهر انعدام التوافق بين الطرفين.
المستوى الثاني : ما بين سبع و إحدى عشر سنة، يتمكن الطفل في هذه المرحلة من إدراكه لوجود الخلاف، و لمدى ارتباط الصلح بالتوافق، إلا أنه لا يصل إلى درجة استيعاب بأن التوافق يجب أن يكون ملبيا لحاجة الطرفين، أو بأنه يجب أن يتم بمجهود من الطرفين.
المستوى الثالث : من إثنى عشر سنة إلى خمسة عشر سنة، و هنا نكون في فترة المراهقة، و لعل ما يميزها هو تمكن الطفل من ربط الخلاف بالعلاقة، فينظر للخلاف ضمن إطار علائقي مدركا بأنه لا يمكن الحديث عن الحلول بعيدا عن التفاوض و التعاون. و لا نجد لدى المراهق فوارق كبيرة بين استراتيجيات التعامل مع الآخر و التعامل مع الذات. و ما يميز هذه المرحلة هو حساسية المراهق المفرطة لردود فعل الآخر، فلما يواجه خلافا داخل المؤسسة مثلا، فإنه غالبا ما يعيش الحادث كأزمة خانقة، تؤدي إلى إحساسه :
- صعوبة التعايش
- البحث عن كيفية حل المشكلة بتوجيه الاتهام للآخرين
- خلق أجواء نفسية و اجتماعية مأزومة
الشيء الذي يجعله مهيئا على المستوى السيكولوجي للهروب من هذه الأجواء المأزومة و تحاشيها، مما يفسر كثيرا من أسباب الهدر أو التسرب الدراسي بين نسبة هامة من المراهقين. و من هنا تظهر لنا أهمية الوساطة بالنسبة للمراهقين على وجه الخصوص.
المطلب الثاني: إجراءات سير عملية الوساطة المدرسية
لما كان موضوع الوساطة -بشكل عام- موضوعا حديثا على الترسانة القانونية المغربية، فإن الأمر يزداد تعقيدا عند حديثنا عن وساطة مدرسية أو وساطة متخصصة كما هو الشأن بالنسبة للوساطة الأسرية، الأمر الذي يدفعنا إلى الانفتاح على التجارب المقارنة وما كتبه المختصون المغاربة بشأن إدماج الوساطة المدرسية بالمغرب، ثم الحديث عن خطوات تطبيق هذه الوساطة عمليا.
الفقرة الأولى: إجراءات إدماج الوساطة المدرسية بالمؤسسات التعليمية
كثيرة هي المنازعات التي تنشأ بين أسرة التعليم من تلاميذ فيما بينهم أو مع أساتذتهم وبين الأستاذ ومديره، وقد تنتهي هذه المنازعات بتدابير لا يحمد عقباها كالفصل أو التوقيف ويضيع التلميذ أو يغادر الدراسة مبكرا أو تتم مقاضاته إن كان هناك عنفا؛ لهذه الأسباب يتوجب على المشرع المغربي تقنين نظام الوساطة المدرسية ووضع إجراءات خاصة قصد تفعيله تفعيلا جيدا وإشراك الهيئات الأخرى من مجتمع مدني ومراكز متخصصة، ولهذا فقد اقترح بعض الباحثين مايلي:
الواجهة القانونية : عبر إصدار نص قانوني أو مذكرة تحدد شروط ومقتضيات تفعيل نظام الوساطة التربوية في المدرسة المغربية ، وأدوارها ، وآلياتها والمتدخلين في هذا المجال قصد تحديث الترسانة القانونية لتساير التطورات الاجتماعية والتحولات الاقتصادية الحاصلة داخليا وخارجيا.[6]
وضع برنامج سنوي في هذا المجال: يحدد مكان التدخل والفئات المستهدفة من الوساطة التربوية، و أشكال اقتراح المشاريع من طرف المتدخلين.
إقرار آليات ومقتضيات والتزامات المتدخلين في هذا المجال : من جمعيات وأفراد وفق دفاتر تحملات محددة، ذلك أنه وإلى حدود الآن لا يمكن للجمعيات أن تقوم بأدوار محددة في مجال الوساطة إلا في إطار اتفاقيات الشراكة بين الجمعيات والنيابات، هذا الإطار الذي يعتبر إطارا محدودا [7].
تخصيص الموارد المالية والإمكانيات المادية الملائمة لانجاز هذا البرنامج : بإقرار نظام للتتبع والتقويم على المستوى الإقليمي ومناقشة النتائج التي تم تحقيقها مقارنة مع الأهداف المحددة سلفا.
إن التفكير في إرساء نظام للوساطة التربوية ، يحمل آفاقا واعدة بالنسبة للمدرسة المغربية. فمن جهة، سيمكن هذا النظام من الاستفادة من الرأسمال الاجتماعي الذي يشكله النسيج الجمعوي المهتم بقضايا التربية والتعليم، وما راكمه من تجربة في مجال الدعم التربوي.[8]
الفقرة الثانية : خطوات تطبيق الوساطة المدرسية
من بين المنظرين للوساطة المدرسية الباحثان Sheppard و Gofman، فالأول قدم سنة 1991 نموذجا لبعض الخطوات التي يمكن اعتمادها لتطبيق الوساطة وهي كالتالي:
مرحلة التعريف: حيث يتم تقديم الخلاف وتوضيحه من لدن كلا الطرفين
مرحلة الحوار: يتم توضيح الخلاف من وجهة نظر كل من الطرفين ( تقديم المعلومات/الحجج/المبررات) التي يتوفر عليها كل طرف تجاه الطرف الثاني، مع فسح المجال لكل طرف بتوضيح وجهة نظره كما يوضح الحل الذي يقترحه.
مرحلة اختيار البدائل : وهنا يتم تصنيف المعلومات للبحث عن البدائل لحل الخلاف، لكي يبدأ الفرز، الذي على أساسه يتم اختيار الأفكار التي يمكن أن ترضي الطرفين.
مرحلة التوافق : حيث يتم توافق الطرفين واتفاقهما بخصوص قرار معين، أو اقتراحهما لبدائل معينة.
أما Gofman ، فيقسم سيرورة الوساطة إلى مرحلتين أساسيتين :
مرحلة الفصل Phase de separation : وتقوم هذه المرحلة على أساس موقف كل من الطرفين وتمكينه من التعبير عن موقفه .
مرحلة إعادة البناء Reconstruction: إنهاء مرحلة ترميم التبادل وإعادة بنائه وإصلاحه مع السعي نحو البحث عن الحل أو الاتفاق الذي من شأنه أن يرضي الطرفين.
وفي كلا التصورين لا يتدخل الوسيط في الحوار إلا في حالة صعوبة تحقيق التواصل وتعذره، أو لما يطلب منه ذلك، حيث ينحصر دوره في توجيه الحوار، بشكل يجعل كلا من الطرفين يركز على مضمون الخلاف وليس على الخاصيات الشخصية للطرف المعارض.
خاتمة:
وختاما نذكر بأن الحقل المدرسي هو حقل مؤهل بطبيعته لبروز الخلافات المابين شخصية، هذه الخلافات التي يتعين أن يتم التعامل معها كشيء طبيعي، تهيء الناشئة لمواجهة تعقيدات الحياة وصعوباتها. وحتى تتمكن المدرسة من النجاح في مهمتها، فإنه يبقى من اللازم أن تمكن سائر المتعلمين على اختلاف بنياتهم العقلية والنفسية و اختلاف انتمائاتهم السوسيواقتصادية من استيعاب الخلافات وحسن تدبيرها، فتصب اهتمامها على تمكين الناشئة من تعلم :
كيف يمكن أن نتعلم؟
كيف نحول تعلماتنا إلى سلوكات وممارسات ؟
كيف نستثمر تعلماتنا في تفاعلنا مع الآخر ؟
فإذا كانت الوظيفة التربوية للمدرسة تقتضي تمكين الطفل من المعرفة لكي يحقق اندماجه في المجتمع، فعلينا أن نتساءل هل يمكن أن نحقق الاندماج في غياب اهتماماتنا بالجوانب العاطفية للناشئة؟ إلى أي حد نمكنهم من الاندماج في غياب اهتماماتنا بتعليمهم كيفية تدبير العلاقات وحل الخلافات؟
هنا تكمن أهمية الوساطة المدرسية كسيرورة سيكولوجية، وتقنية تواصلية ذات أبعاد اجتماعية حقوقية، وأبعاد عاطفية وجدانية تسعى إلى تكميل مهام المدرسة، لكي تمنح الناشئة إمكانيات تجعل منهم أشخاصا فاعلين مبادرين قادرين على الاندماج صمن عالم المعرفة المعاصر، وكما تمنحهم الحق في إبداء رأيهم لحل مشاكلهم بكيفية تتلائم و متطلبات عصرهم بعيدا عن وصايا الراشدين.
[1] رشيد بن بيه، الوساطة التربوية : المفهوم، الأدوار وآليات التأسيس بالمدرسة المغربية، نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 02 – 12–2010.
[2] خلود السباعي، الوساطة المدرسية مبررات التخصص و بيداغوجيا العمل، مجلة علوم التربية، العدد 56، 2012، ص 25-26.
[3] خلود السباعي، الوساطة المدرسية مبررات التخصص و بيداغوجيا العمل، مجلة علوم التربية، العدد 56، 2012، ص25.
[4] رشيد بن بيه، الوساطة التربوية : المفهوم، الأدوار وآليات التأسيس بالمدرسة المغربية، نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 02 – 12–2010.
[5] وثيقة دليل الوسيط المدرسي للمنسقية الجهوية لمراكز الاستماع والوساطة المدرسية، أكاديمية مراكش تانسيفت الحوز، المركز الجهوي للتوثيق والتنشيط والإنتاج التربوي، يونيو 2007.
[6] بنسالم أوديجا، إدماج الوساطة في النظامين القانوني والقضائي بالمغرب، السياق العام، الاشكاليات المطروحة،، مساهمة في الندوة الجهوية الحادية عشر بالعيون بتاريخ 1و2نونبر 2007 احتفاء بالذكرى الخمسينية لتأسيس المجلس الأعلى تحت عنوان” الصلح والتحكيم والوسائل البديلة لحل النزاعات من خلال اجتهادات المجلس الأعلى”، منشورات جمعية التكافل الاجتماعي لقضاة وموظفي المجلس الأعلى، مطبعة الأمنية-الرباط، طبعة 2007، ص373.
[7] www . maghres .com بتاريخ الزيارة 29 يناير 2016.
[8] رشيد بن بيه، الوساطة التربوية : المفهوم، الأدوار وآليات التأسيس بالمدرسة المغربية ، مقال منشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 2 دجنبر 2010.